بالصوت والصورة: في تيزي وزو واقعٌ "أفظع وأجمل" مما وثّقه فايسبوك ! - Radio M

Radio M

بالصوت والصورة: في تيزي وزو واقعٌ “أفظع وأجمل” مما وثّقه فايسبوك !

Radio M | 16/08/21 14:08

بالصوت والصورة: في تيزي وزو واقعٌ “أفظع وأجمل” مما وثّقه فايسبوك !

روبورتاج: كنزة خاطو

من العاصمة انطلقنا نحو تيزي وزو، صورٌ ومشاهدٌ لم تكن أبدا لتخطر على بالنا، فهي أفظع وأجمل مما وثّقته مواقع التواصل الاجتماعي، أفجع لقساوة المناظر وأجمل لما رأيناه من هبّة تضامنية وصلت لأبعد قرية في هذه المدينة المنكوبة.


عادةً نعشق المناظر الخلابة واخضرار الطبيعة ونحن في طريقنا إلى منطقة القبائل، لكن ما خلّفته الحرائق قاسٍ جدّا ولا يُنصح به لذوي القلوب الرهيفة.

رمادٌ وجبال عارية، دخان في كلّ مكان وصوت يخيّم المكان، من طبيعة خضراء إلى صحراء جرداء واللون الأسود كان ديكورا غلبَ على الطريق السيار.

دموع تُذرف لرؤية نبات الصّبار راكعاً بعد أن طالته النيران، نيرانٌ أتت على الأخضر واليابس هنا.

نستطيع بوضوح رؤية المنازل المتفحّمة ونحن نسير إلى تيزي وزو، منازل باتت مهجورة، نستطيع أيضا تخيّل الأطفال والنساء وهم يفرّون ليلةً قبل وصولنا: صراخهم بكاؤهم فزعهم وربّما استسلامهم لألسنة النيران.

ما يُزعج في الطريق إلى تيزي وزو هو الصّمت والسكوت، حتى وإن قابلت ساكنةً وحاولتَ تبادل أطراف الحديث معهم لا يتكلّمون، ويكتفون بواجب التحيّة بطأطأة الرأس أو برفع كفّ اليد. ماذا عساهم أن يقولون؟

خجلنا حتى من ممارسة عملنا الصحفي عند رؤيتهم، ماذا عسانا أن نقول؟ ما هو شعوركم أو بماذا تطالبون ؟ خجلنا حقًا حتى خلعنا في كثير من الأحيان قبّعة الصحفي وفضّلنا قبّعة المواطن فالعاطفة غلبت أمام ما نشاهده.

الجميل كان ترقيم المركبات على طول الطريق، سيارات وشاحنات مزيّنة بالأعلام الوطنية دُوّن على أغلبها “قافلة تضامنية مع إخواننا في تيزي وزو”، من جميع الولايات مركبات “الديافام” قاطرتها “مُدجّجة” بالمساعدات، رأينا أفرشة وملابس ومواد غذائية وأدوية ومياه عذبة ولعب أطفال.

كلّما مررنا على أحد المركبات، نضغط على أبواق السيارات لنحيي بعضنا، لم نكن نعرف لماذا ولكنّ ذلك يشجّعنا ويجعلنا نشعر ربّما بـ “الانتماء الحقيقي” لهذا الوطن.

سألنا عددا من المشاركين في هذه القوافل جاؤوا من كلّ مكان وهران، باتنة، سطيف، العاصمة، البليدة وغيرها، جميعهم ردّدوا نفس العبارة “نحن إخوة”.

مشاهدٌ وعبارات تنسيك مشقّة هذه الطريق والطبيعة القاسية، تنسيك الحرارة التي لا تطاق والدّخان السّام الذي ينبعث من أعالي هذه الجبال.


يجعلك أيضا لا تكترث لهذه الصوّر التي خلّفها اللهيب، صورٌ تُذكّرنا –بدون مبالغة- بأفلام الرّعب وأفلام الحروب.

في الطريق إلى مدينة تيزي وزو كان لنا واسع الاختيار، إلى أين نتجّه ؟ أيّ قرية سنزور؟ فعشرات القرى تضرّرت وأخرى هُجرت بفعل الحرائق التي التهمت كلّ شيء!

رغم الكارثة…سكانة واسيف لم ينسوا خصال اكرام الضيف

القدر قادنا إلى واسيف بلدية آيت تودرت تحديدا، بساتين ومزارعٌ سوداء، رائحة حريق لا تطاق، حتى لون الشمس غير لون الشمس المُعتاد، لونها ينعكس على المكان ليعطي ضوءً أشعرنا بالخوف تارة والحزن تارةً أخرى.

وصلنا إلى قريةٍ بـ آيت تودرت في حدود الساعة الرابعة مساء، ركنا السيارة أمام أحد المنازل أين كانت شاحنة قادمة من وهران تُفرغ مساعدات جلبتها إلى هنا.

أمام المنزل أطفال ينظرون إلينا وعلامات الفرحة والدّهشة معًا بادية على وجوههم، كان أحد “الوهارنة” يُوزّع عليهم الحلوى ويُجاملهم ما يجعلهم يضحكون لكن بصوتٍ خافتٍ.

سألنا عن أهل الديار، أجابنا أحد المشاركين في القافلة التضامنية أنّه بإمكاننا الدخول دون إذن فالعائلة تستقبل الجميع. تردّدنا إلّا أنّ إحدى نساء العائلة خرجت وألحّت علينا بالدخول لتناول وجبة الغذاء وشرب القهوة. خجلنا لكرمهم وهم في “مِحنة” كهذه، لبيّنا دعوة الدخول ويا ليثنا ما دخلنا!

أوّل طلبٍ لنا كان فضولنا لرؤية الزوايا المتضررة بسبب الحرائق، أخذتنا صاحبة البيت في جولة استطلاعية لبستانها ومرقد غنمها: لا أثر لأشجار الرمان والزيتون والليمون وغيرها، رماد في رماد.

أما أقسى ما يُمكن أن يصادفك هنا وأنت تمشي بخُطى حذرة، كباش متفحّمة على الأرض وتحت الرّكام. للحظة تخيّلنا هذه الحيوانات الأليفة وهي تحاول الفرار والنجاة من النّار، نسمع صوتها ونشاهد نظرات الرعب في أعينها، قاسية هي هذه المشاهد فعلا قاسية.

صاحبة البيت طلبت منّا مرافقتها لدى بيت الجيران، بيت لم يبقى منه إلّا أرضيته، لا سقف يقيهم حرّ الصيف وبرد الشتاء.

تقول ربّة هذا البيت إنّ جميع ديكها ودجاجاتها التهمتهم ألسنة النيران، ويروي لنا ابنها الصغير كيف أنقذ كلبه من النار وهرب عند أخواله، تحكي لنا أيضا أمّه كيف وصلت الحرائق إلى منزلها في رمشة عين.

أطفالها فرحون لعدم هلاك كلبهم “راكس”، يبدو أنّه فرحٌ أيضا فهو يداعبهم ويجري ويلعب في كلّ مكان. ربّة البيت طلبت منا هي الأخرى مرافقتها إلى بيوتٍ أخرى تضرّرت من هذه النيران اللعينة.

وصلنا إلى بيتٍ آخر، استقبلنا صاحبه بابتسامةِ حزينة، لم يقل شيئَا وأشار بيده إلى سلالم الدار التي تؤخذنا إلى الطابق العلوي، صعدنا وإذا بها جدران سوداء مهدّمة وحجر أحمر على الأرض، زوجته طلبت منا الحذر والدخول إلى هذه البيوت بدون سقف.

تقول إنّها أصبحت مشرّدة بين ليلة وضحاها، تشير إلى الثلاجة والفرن المتفحّمين، إلى الفراش وألبستها المحترقة، إلى المطبخ الذي صار رمادا. وتحكي كيف وصلت ألسنة النيران إلى بيتها وكيف هربت منه ووجدت نفسها في سيارةٍ توجّهت بهم إلى المسجد للاختباء.

في الجهة المقابلة، منزل آخر، يحاول صاحبه والرماد لطّخ وجهه ترقيع ما لا يمكن ترقيعه بواسطة مفكّ براغي، يقول إنّ جميع ذكرياته هنا.

 لاحظنا وسط هذا الدّمار أواني تقليدية على الأرض، شاهدنا لوحات تفاصيلها أُحرقت فوق بقايا الجدران. كلّ شيء جميل أخذته هذه الكارثة.

من على ما تبقّى من النافدة، تشير أحد النسوة إلى مقبرة القرية وتقول: “احترقت”! حتى الموتى لم ينجوا من هذه النيران القاسية !

زرنا منازل أخرى هنا مُدمّرة، كانت جميلة ودافئة على ما يبدو ولكنّ القدر شاء أن تُصبح بلا روح بين عشيّة وضحاها.

ونحن في طريق العودة إلى السيّارة، قابلنا عائلات تحمل قارورات المياه وبعض الأكل والأفرشة، نعم صور كنّا نشاهدها فقط على النشرات الإخبارية التي تُوثّق الحروب -هذا كان شعورنا-.

آيت تودرت قرية جميلة وأهلها طيّبون، تركناها لكن لم نُودّعها بل وعدناها بالعودة لنغرس معًا أشجار الزيتون والرّمان، ونُطعم الدجاج والغنم، ونعيد بناء أسقف منازلها المدمّرة.

إذن هي رحلة لم تدم طويلا إلى منطقة القبائل، لكنّها كانت رّبما كافية للوقوف عند حجم كارثة ومحنة ألمّت بالمنطقة وساكنتها.

هو كابوس تعيشه ولاية تيزي وزو، لكن ستستفيق منه حتمًا في أقرب الآجال بفضل التضامن الذي رسمه الشعب الجزائري الذي زرع الأمل في كلّ ركنٍ وزاوية ومنزل محترقٍ هنا.